مجتمع

الجهاد المضاد.. هجوم ألمانيا ومعادة الإسلام بـ«الاستبدال العظيم»

ماذا تعرف عن نظرية «الاستبدال العظيم»، وما علاقتها بهجوم ألمانيا الأخير؟

future رجال شرطة يقومون بدورية في سوق عيد الميلاد، حيث هجوم ماغديبورج، ألمانيا، السبت 21 ديسمبر 2024

قبل نحو أسبوع من تنفيذه هجوم ماغدبورغ شرقي ألمانيا، أجرى طالب عبدالمحسن، الطبيب الملحد الذي حصل على لجوء في ألمانيا، مقابلة مع مدونة إلكترونية أمريكية معروفة بدعمها للإسلاموفوبيا، هاجم فيها المسلمين وأبدى إعجابه برجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك واليميني الأمريكي أليكس جونز الذي يروج للنسخة الأمريكية من نظرية «الاستبدال العظيم» التي تزعم أن هناك مؤامرة لإجراء تغيير ديموغرافي كبير يتم فيه استبدال السكان ذوي العرق الأبيض بآخرين من شعوب غير بيضاء على رأسهم المنحدرون من بلدان مسلمة.

ولم يكن التعبير عن الإعجاب بشخصيتي ماسك وجونز أمراً عفوياً بل جاء مرتبطاً بالسياق العام لنظرية «الاستبدال العظيم»، فالأول سمح من ذي قبل بظهور منشورات على منصة X (تويتر سابقاً) تروج للنظرية، والأخير يتبناها في نسختها الأمريكية التي أطلقها بالأساس ديفيد لين في شعاره الشهير «الكلمات الأربعة عشر»، في وقت يتزايد فيه انتشار هذه النظرية في أكثر من دولة مدفوعة بأسباب وعوامل سياسية واقتصادية ودينية وغيرها، ويتجسد الإيمان بها في صورة تطرف وأعمال عنف توجه لغير أبناء العرق الأبيض وفي مقدمتهم المسلمين والسود.

وولدت فكرة «الاستبدال العظيم» قبل أكثر من 50 عاماً حين كتب الروائي الفرنسي جين راسبيل (1925: 2020) روايته المثيرة للجدل «معسكر القديسين» التي يتنبأ فيها بانهيار الحضارة الغربية وتدمير العرق الأبيض بسبب الهجرات القادمة من دول العالم الثالث وبخاصة دول الشمال الأفريقي المسلمة، وعُدت الرواية السابقة أشهر مؤلفاته حتى إن كتبه ومقالاته التي صدرت على مدار الأعوام التالية ظلت تدور في نفس الفلك، ومن بينها مقاله الذي نشره، مع كتاب آخرين، في صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية عام 1985، بعنوان: «هل ستبقى فرنسا فرنسية في عام 2015؟» وعد فيه أن المهاجرين يشكلون تهديداً للقيم الفرنسية التقليدية، وهي أطروحة تشبه تلك التي يروجها اليمين الفرنسي خلال السنوات الأخيرة.

وسيراً على درب راسبيل نظّر الكاتب الفرنسي رينو كامو لنفس الفكرة وأعطاها اسمها المعروف حالياً، أواخر 2011، بعدما نشر كتابه «الاستبدال العظيم» زاعماً أن هناك مؤامرة تتواطأ فيها النخب العالمية لإبادة العرق الأبيض واستبدالهم بعرقيات أخرى.

ومع أن هذه النظرية التي تعتمد كغيرها من نظريات المؤامرة، على أساس غير منطقي أو سليم إلا أن البحث في جذورها وأسسها يرجع إلى صراع قديم جديد بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي الذي مر بأطوار مختلفة عبر حقب زمنية متعاقبة، ثم جاء ظهور المركزية الأوروبية  (يوروسنتريزم -Eurocentrism) التي برزت في سياق كولونيالي مرتبط بالاحتلال الغربي العسكري والسياسي لبلدان المشرق وللدول الإفريقية وغيرها ليعزز من الأفكار المرتبطة بحالة الصراع المذكورة فجعلت «السيد الأبيض» يرى نفسه أرقى البشر وأن كل البشر الآخرين أدنى منه مرتبة ودرجة، وبما أنه الأرقى فلديه الحق في فرض نظمه ومعرفته ومعاييره على العالم بأسره.

ومن اللافت وجود تناقضات صارخة بين دعاة «الاستبدال العظيم»، رغم اتفاقهم على الفكرة العامة للنظرية، فجين راسبيل مسيحي كاثوليكي يستقى من الكاثوليكية التقليدية أفكاره وتنظيراته ويدعو لاستعادة النظام الملكي الكاثوليكي الذي ثار عليه الفرنسيون في الفترة من 1789 : 1799، أما رينو كامو الذي تأثر للغاية بـ«راسبيل» في أطروحة الاستبدال، فيختلف كثيراً عن ملهمه إذ إنه كاتب علماني مثلي الجنس له مواقفه ضد التدين المسيحي حتى إنه انسحب من انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019 حين نشر المجلس الوطني للمقاومة الأوروبية، وهو منظمة يمنية متطرفة شارك «كامو» وكريم أوشيخ في إنشائها عام 2017، صورة لأحد المرشحين وهو راكع أمام صليب معكوف، معتبراً أن هذا يناقض كل ما يناضل من أجله.

وللمفارقة، فإن نظرية «الاستبدال العظيم» ترى أن من بين التكتيكات التي يتم بها العمل على إحلال غير البيض محل البيض هي تفكيك أسر ذوي العرق الأبيض وجعلهم يعزفون عن الزواج وإشغالهم بإدمان المواد الإباحية والمثلية، وهو ما يتناقض أيضاً مع ميول كامو المعروف بمثليته الجنسية.

من كرايست تشيرش إلى ماغدبورغ: الإرهاب من أجل منع «الاستبدال العظيم»

على صعيد متصل، ارتفع عدد الهجمات التي يشنها معتنقو مؤامرة/ نظرية «الاستبدال العظيم»، خلال السنوات الأخيرة، ففي نيوزيلندا، شن المتطرف اليميني برينتون تارانت هجوماً على مسجدين، عام 2019، وكتب رسالة مطولة يتحدث فيها عن «الإبادة البيضاء» ويشرح دوافع تنفيذ الهجوم، داعياً الغرب للتخلي عن مبدأ اللذة والعدمية والتركيز على زيادة أعداد المواليد لمواجهة الغزو القادم من غير المنتمين للعرق الأبيض الذين يتكاثرون سريعاً في المجتمعات الجديدة حتى يحلوا وأبناؤهم محل البيض، قائلاً إنه سينفذ الهجوم لكي يعرف المسُتَبِدلين أنهم لن يكونوا بأمان ولن يمكلوا أرض البيض ولتقليل معدلات الهجرة.

واعتبر تارانت أنه مجرد رجل أبيض عادي، يريد ضمان مستقبل الأطفال البيض والانتقام من الغزاة المسلمين الذين استعبدوا ملايين الأوروبيين، مشيراً إلى أن رحلته لفرنسا أذكت شعوره بضرورة تنفيذ الهجوم لأنه رأى غير البيض أكثر انتشاراً في الجمهورية الفرنسية، وفق تعبيره.

وبنفس العبارة تقريباً، برر بايتون جيندرون الشاب الأمريكي الأبيض الذي قتل 10 أشخاص في أحد أحياء ولاية نيويورك، هجومه قائلاً إن تجاربه وخبراته غير مهمة، وإنما هو مجرد رجل أبيض عادي يسعى إلى حماية وخدمة مجتمعه وشعبه وثقافته وعرقه. وهي أيضاً عبارات شبيهة بتلك التي برر بها الطبيب السعودي الملحد طالب عبدالمحسن هجوم ماغدبورغ في ألمانيا معتبراً أن برلين تريد أسلمة أوروبا وهو ما يعني استبدال العرق الأبيض، مع أن الأخير لا ينتمي لهذا العرق بالأساس وإنما لأيديولوجيا مؤامراتية تبيح استخدام العنف والإرهاب الذي تسميه «الجهاد المضاد» الهادف لمنع الانتحار الثقافي للقارة الأوروبية.

على أن هجوم ماغدبورغ الأخير، على ما به من مفارقات وتناقضات مركبة، يعكس حجم الأزمة التي تعيشها أوروبا في الوقت الحالي، فهذه المدينة الواقعة في شرق ألمانيا شهدت حالة حشد كبيرة قام بها حزب البديل من أجل ألمانيا خلال التحضير لانتخابات البرلمان الأوروبي، قبل نحو عام، وتحدث قادة الحزب بشكل واضح عن مؤامرة/ نظرية «الاستبدال العظيم»، وقالت عضوة الحزب والمرشحة عنه إيرمهيلد بوسدورف، إن الخوف الحقيقي لا ينبغي أن يكون من التغير المناخي بسبب البشر بل من التغير السكاني بفعل البشر»، في إشارة واضحة للنظرية المذكورة.

وبفعل حملة التحريض، استصدار المكتب الاتحادي لحماية الدستور (الاستخبارات الداخلية في ألمانيا) حكماً قضائياً بوضع أنشطة وأعضاء الحزب تحت الرقابة، بيد أن الهجوم الأخير أثبت، مجدداً أن الإجراءات الأمنية وحدها لا تكفي لمعالجة الأيديولوجيا المتطرفة الباعثة على العنف والإرهاب، لا سيما أن هذه الأفكار أصبحت عابرة للحدود الوطنية، وانتشرت إلى بلدان أخرى منها المملكة المتحدة وأيرلندا والولايات المتحدة ونيوزيلندا وكندا وغيرهم.

ولدى الولايات المتحدة نسخة خاصة من «الاستبدال العظيم»، طرحها ديفيد لين عام 1995 الذي تحدث عن الإبادة الجماعية للبيض، وترى أن الحزب الديمقراطي والليبراليين وخصوصاً اليهود منهم يهدفون إلى إحلال الملونين محل العرق الأبيض، ولذا يدعو أتباع هذه النظرية للقتال من أجل منع استبدال الأمريكيين البيض بالسود والمنتمين لأعراق أخرى، وهذه النظرية التآمرية تحظى بدعم من مسؤولين ومشرعين أمريكيين كبار، أغلبهم منتمون للحزب الجمهوري، من بينهم النائبة إليز ستيفانيك التي رشحها الرئيس المنتخب دونالد ترامب لشغل منصب سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، كما أن ترامب نفسه روج بعض أطروحات هذه المجموعات ليعزز من مواقفه المتشددة ضد المهاجرين، وتجد تلك الحالة زخماً يتزايد يوماً بعد يوم في الولايات المتحدة بسبب صعود الاتجاهات والحركات اليمينية المتطرفة مثل حركة «QAnon» وغيرها.

وبعيداً عن الحالة الأوروبية والأمريكية، وجدت فكرة مؤامرة «الاستبدال العظيم» طريقاً إلى قلب الوطن العربي، ولمح إليها الرئيس التونسي قيس سعيد، في أحد خطاباته، عندما قال إن هناك خطة لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وإحلال المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء محل المواطنين التونسيين، وهو ما سبق أن ادعاه الحزب القومي التونسي في وثيقة أصدرها بعنوان «مشروع الاستيطان الأجصي وإزالة تونس من الوجود»، و«الأجصي» اختصار للحروف الثلاثة لأفريقيا جنوب الصحراء.

ويتبنى الحزب الذي ينشط بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي أفكاراً راديكالية، مثل بقية المؤمنين بمؤامرة الاستبدال العظيم، ومن بينها الدعوة لطرد المهاجرين، ورفض فكرة الديمقراطية، والدعوة للامتناع عن سداد الديون الخارجية المستحقة على تونس وغيرها من الأفكار التي تدعو لها الحركات والتنظيمات المماثلة في أوروبا وأمريكا.

وبنظرة تحليلية للسياقات الجغرافية التي ينتشر فيها فكر «الاستبدال العظيم»، يتضح أن كل منطقة جغرافية لديها رؤيتها الخاصة التي تتفق في عمومها مع المؤمنين بنفس الفكرة في بقاع جغرافية أخرى مع وجود بعض الاختلافات الهامشية في التفاصيل، فأوروبيو «الاستبدال العظيم» عدوهم الأول الذين يخشون استبدال العرق الأبيض به هم المسلمون، أما الأمريكيون فخشيتهم من إحلال الملونين محلهم وكذلك المسلمون، وفي النسخة التونسية للاستبدال العظيم يعتبر العدو الأول المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وفي كل الحالات هناك خشية من المهاجرين والآخر المختلف عن ذوي العرق الأبيض، ولهذا دوافعه وأسبابه التي يمكن القول إنها ليست أسباباً عرقية في الأساس.

اليمين المتطرف وفشل النموذج الغربي

وفي الحقيقة، فإن صعود هذا الاتجاه المتطرف له أسباب سياسية واجتماعية وأيديولوجية، لا تخرج عن إطار الصراع القديم وهو في جوهره صراع راجع لطبيعة الوجود البشري على هذه الأرض، الذي يفسر أحياناً بأسباب دينية أو طبقية أو غيرها من التفسيرات المقترحة للظاهرة الصراعية، ويلاحظ أن هذا الصعود ارتبط بالأساس بفشل وانتكاسات النموذج الغربي في نسخته الليبرالية التي سوق له لفترة على أنه منتهى الآمال ونهاية التاريخ.

وهناك اتجاه ينظر للديمقراطيات الغربية على أنها تماهت مع سياسات النيوليبرالية الشرسة ومصالح الشركات العابرة للحدود الوطنية التي أدت لزيادة الفجوة الطبقية بين الأثرياء وغالبية طبقات هذه المجتمعات، كما أن هذه الديمقراطيات فشلت في كثير من الأحيان في إنتاج بديل حقيقي فأصبحت أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط لا تقدم جديداً وأصبحت العملية الانتخابية عبارة عن تقاليد مكررة وطقوسية إلى حد كبير، ومن ثم وجد اليمين المتطرف فرصة سانحة لاستغلالها ضدهم متماهياً مع الحالة الشعبوية الرافضة لمثل هذه السياسات.

ويمكن افتراض أيضاً أن الأزمة المالية العالمية، عام 2008، وما تلاها من ارتدادات في عدد من بلدان القارة الأوروبية، بما في ذلك سياسات التقشف الاقتصادي أسهمت في بروز هذا الاتجاه إذ إن وطأة الضغوط الاقتصادية أسهمت في صعود هذه الاتجاهات المتطرفة التي لا تملك مشروعاً حقيقياً بديلاً، فهي تبالغ في الشوفينية والتمجيد العرقي للعرق الأبيض أو للسيد الأبيض، والشعبوية المناهضة للنخبة السياسية الحاكمة، والكراهية الموجه للأجانب والمهاجرين، ويرى أصحاب هذا الاتجاه المتطرف بمن في ذلك أتباع نظرية/ مؤامرة «الاستبدال العظيم» أن الحل يكمن في الإطاحة بالنخبة السياسية الحاكمة ووقف تدفق المهاجرين/ الأجانب إلى بلدانهم وهو الأمر الذي لن يتم إلا بـ«الجهاد المضاد» الذي آمن به منفذو هجمات كرايست تشرش، ونيويورك، وماغدبورغ، ولا يزال يؤمن به آخرون ينتظرون الفرصة للانتقام من «الملونين» والمهاجرين باعتبارهم أصل الشر الذي تجسد في وادي العرق الأبيض.

# ألماانيا # اليمين المتطرف # مجتمع

منتخب سويسري ملون: هكذا غسلت زيورخ يدها المتورطة في الاستعمار
من دمشق إلى باريس – نوتردام سليلة العمارة الإسلامية
وأنت السبب يا ابني: كيف تؤثر الأبوة على أداء اللاعبين؟

مجتمع